تم إعداد هذه الخطبة كنموذج للخطباء وأئمة المساجد لتناول موضوع تغيّر المناخ والبيئة من المنظور الإسلامي
(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ، فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّـهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّـهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) [آل عمران:96،97]
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرشد الأمة لطريق السعادة ودخول الجنان، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه ما تعاقب دهرٌ وزمان.
الإسلام يأمرُ بكلّ خير، وينَهى عن كلّ شرّ، يحثُّ على الآدابِ ومحاسنِ الأخلاق، بما في ذلك الحفاظِ على البيئة التي نعيشُها، والأرض التي نسكنها، لنهتم بها ونرعاها لمصلحة الفرد والمجتمع، وبما يأتي بالخير على سائر المخلوقات.
والإنسانُ مستخلفٌ في الأرض، (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) [البقرة:30].
إخواني وأخواتي، يقع على عاتق كل جيل من الأجيال عبر الأزمنة مسؤوليّة الحفاظ على الأرض وما عليها من مخلوقات سخّرها الله عزّ وجلّ لننعم بها ونحافظ عليها وخصوصًا خلال لحظات التعبّد مثل الحج.
والإنسان مرتبطٌ ببيئته، وعنصرٌ مؤثّرٌ عليها، أُمرَ بحماية البيئة الطبيعية والاجتماعية؛ لأن بها عمارة الأرض، وسلامة الإنسان والكائنات جميعاً، فيجب حمايتُها من التلوّث والتخريب والانقراض.
وخلافةُ الأرضِ مسؤوليةٌ أساسية وواجب قال -صلى الله عليه وآله وسلم-: “إن الدنيا حلوةٌ خضرة، وإن الله مستخلِفُكم فيها فناظرٌ ماذا تعملون” رواه مسلم.
ولكننا نعاني في هذا العصر من تداعيات العبث في التوازن البيئي التي استمرت في التراكم عبر بضع مئات من السنوات، والتي تطوّرت خلالها حضارتنا الإنسانيّة بفضل العلم والتكنولوجيا، وتوسّعت مدننا وقرانا بوتيرة متسارعة على حساب هذا التوازن الهش في الأنظمة الطبيعيّة، إلى أن وصلنا إلى ما آلت إليه أحوالنا اليوم، من تلوّث ودمار في البر والبحر والهواء.
وإن جهلَ الإنسانِ وعدوانيّتَه تخريبٌ للبيئة وإفساد، (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) [الروم:41]، وخاطب اللهُ الإنسانَ: (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا) [الأعراف:85]؛ وذلك للعيش بها، والاستفادة منها. مثال على ذلك كمية النفايات البلاستيكية مثل قناني المياه التي تُرمى وتتراكم وتلوّث الطرقات خلال الحج أو الإسراف في الطعام والشراب وهدرهما او الطعام المستورد الكثير التعليب والإستهلاك المفرط للطاقة الكهربائية ووسائل النقل الشخصية. كل ذلك سيؤثر في نهاية المطاف على البيئة وعلى صحّة وجودة حياة مجتمعاتنا إن لم نتدارك أنفسنا
تتجلى نتائج هذا الفساد يوماً بعد يوم في ما نراه في منطقتنا وفي سائر بقاع الأرض الأخرى من جفاف وشح في مياه الأمطار، أو تقلّب في أطوار الطقس والمناخ، أو ظروف الطقس المتطرفة مثل العواصف والموجات غير المعتادة من الحر والبرد الشديد، والتي تتسبب في الفيضانات والحرائق وتلف المحاصيل الزراعيّة. وحتّى أنّه على مدى السنوات القادمة، تغير المناخ وموجات الحر سيجعلان القيام بفريضة الحج أقل راحة وعملية، وسترتفع أعداد ضربات الشمس والإرهاق الناتج عن الحرارة والطوارئ الطبية أثناء الحج والعمرة. هذه إشارة لنا لتحمل مسؤوليتنا كمسلمين تجاه المناخ والبيئة.
إن تغيّر المناخ واقع ملموس يزداد أثره عام بعد عام نتيجة للاستمرار في الاعتماد على حرق النفط والغاز والفحم وغيرهم من الوقود الأحفوري من أجل إنتاج الطاقة، وتراكم الغازات الدفيئة في الغلاف الجوي، وارتفاع معدلات درجات الحرارة عالميّاً، وخاصة في منطقتنا وفي الدول الإسلاميّة، التي تعاني ما تعانيه من شح في المياه وتراجع المحاصيل، وخطر على الأمن المائي والغذائي لساكنيها.
لقد تم تصنيف بلادنا العربية كأكثر المناطق التي تعاني من شح المياه حول العالم، فقد انخفضت مصادر الماء المتجددة في منطقتنا بنسبة 75% منذ عام 1950م، ويتوقع العلماء استمرارها بالانخفاض نتيجة لتغيّر المناخ لتصل إلى ما دون 10% من المعدل العالمي لحصّة الفرد الواحد من الماء.
العديد من الحقائق والإحصاءات التي توضح مدى خطورة الوضع الذي وصلت إليه أرضُنا إن لم ننتبه لذلك نتيجةَ سوء استخدام البيئة من قبل الإنسان بسبب الإفساد في كلِّ الأرض بعد إصلاحها، وهي مظاهر تستلزم التدخل السريع.
من الواضح أن هذه التغيرات المناخيّة لها آثار وأبعاد إنسانيّة جسيمة، وهي تؤثر على الفئات الأكثر ضعفاً وعرضة بشكل أقوى من غيرهم، خاصة النساء والحوامل، والأطفال وكبار السن، خاصة في البلدان النامية التي نجد فيها أكبر الفجوات وعدم المساواة.
عباد الله: حمايةُ البيئةِ في الإسلام سببٌ للحفاظ على الإنسان الذي أُمر بعدم الإسراف واستنزاف الموارد الطبيعية وتبديدها، (كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) [البقرة:60]، (وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ) [الشعراء:151]، وكذلك بقيةُ العناصر الطبيعية من ماءٍ وهواء أولاهما الإسلام عنايةً كبرى؛ لأنهما عنصران أساسيّان، بهما وجود الإنسان والنبات والحيوان، (وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) [الأنعام:65].
هناك بعض الخطوات الشخصية التي يمكن القيام بها للحد من الإسراف والتلوّث خلال الحج وحتى في المنازل والمجتمعات المحلية. يمكن مثلًا إحضار العبوات القابلة لإعادة التعبئة بدل القناني البلاستيكية، أو استخدام الأكياس القماشية. من المتاح أيضًا التنقل عبر استعمال وسائل النقل العام أو القطار المخصّص للذهاب إلى مواقع الحج. بالإضافة إلى كل ذلك، من المهم الحرص على التخفيف من استهلاك المياه والطاقة الكهربائية وشراء المنتجات على قدر الحاجة. أمّا عن لباس الإحرام، فيمكن الإستحصال عليه من حاج سابق.
تقع على عاتقنا اليوم مسؤوليّة التفكر في هذا الوضع السيئ الذي وصلنا إليه، وإصلاح حالنا بناء على ما أصبح جليّا من آثار نتجت عن إسرافنا في استخدام الوقود الأحفوري مثل الفحم والنفط والغاز، صحيح أن معظم شعوب المسلمين حول العالم كانوا أقل إسهاماً في تراكم الانبعاثات الكربونيّة المؤدية إلى الاحتباس الحراري العالمي، ولكننا نجدهم اليوم من الأكثر تأثراً بتداعياتها، خاصة في شح المياه والتصحر، البدائل متوفرّة، فقد انعم الله عزّ وجلّ علينا بنعمة العلم، وقد سخّر لنا البدائل من الطاقة النظيفة. كل ذلك يبدأ بأفعال فردية بسيطة في نطاق حياتنا اليومية وخلال أوقات التعبّد لنكون قدوة للعالم أجمع.
أقول قولي هذا وأستغفر الله عز وجل لي ولكم.