يطغى الطابع الصحراوي على منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وتواجه البحار الثلاثة الحيوية فيها، أيْ، البحر الأبيض المتوسط، والبحر الأحمر، والخليج العربي/الفارسي، أخطاراً متصاعدة بسبب تغيُّر المناخ والتلوث والنمو غير المستدام. ومع اقتراب موعد مؤتمر الأمم المتحدة للمحيطات 2025 والذي سيُعقد في شهر حزيران/يونيو المقبل في مدينة نيس، تتسنّى لدول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا فرصة إستراتيجية للاستفادة من مبادئ التمويل الإسلامي كحلول مبتكرة على صعيد الحفاظ على البيئة واستدامتها.
أزمة المحيطات: السرعة في إيجاد الحلول ضرورية
إنّ الدليل على أنّ محيطاتنا تواجه تحديات غير مسبوقة هو دليل لا يمكن إنكاره. أفادت منظمة غرينبيس الولايات المتحدة الأميركية أنّ ما يُقدَّر باثني عشر طناً من المواد البلاستيكية تتسرب إلى محيطاتنا سنوياً – أيْ، ما يعادل حمولة شاحنة من النفايات في كل دقيقة. وتحذّر التقارير الأخيرة الصادرة عن الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغيّر المناخ من انهيار الأنظمة البيئية العالمية خلال عقود من الزمن، في حال لم يتّم اتخاذ إجراءات طارئة. وفي هذه الأثناء، تبقى المعاهدة العالمية للمحيطات بانتظار التصديق عليها بالشكل الكافي، ويبقى تمويل الهدف العالمي 30×30 – الذي يحقق حماية 30% من المحيطات بحلول عام 2030 – متدنٍّ جداً.
تنظّم محيطاتنا المناخ، وتوفّر سبل العيش لمليارات من البشر، وتؤمّن استدامة التنوع البيولوجي. ومع ذلك، وكما وثّقت منظمة غرينبيس الدولية، فإن عدداً صغيراً من الشركات الكبرى ومن الحكومات ذوات القدرة، تنهب النظُم البحرية هذه في سبيل تحقيق الربح، مهددةً بذلك الحياة البحرية في جميع أنحاء العالم. وإضافةً إلى التهديدات الراسخة، مثل التلوث البلاستيكي والصيد الجائر، فإنّ الأخطار الناشئة، مثل التعدين في أعماق البحار، تشكّل مخاطر كارثية محتملة على الموائل الهشة في المحيطات.
على الرغم من التعهدات الطموحة، فشلت آليات التمويل التقليدية في تلبية ما يكفي من الاحتياجات للحفاظ على البيئة البحرية. ويعاني قطاع المحيطات من نقص كبير في التمويل، حيث تصل المتطلبات السنوية لحماية المحيطات إلى 175 مليار دولار، لم يُخصص منها سوى 30 مليار دولار منذ عام 2010. أمّا في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فتبقى نسبة التمويل المتعلق بالمحيطات أدنى من 5% من التمويل المخصص للمناخ، وهو ما يخلق فجوة خطيرة في هذا المجال.
يقدّم التمويل الإسلامي – المقدَّر أن يصل بحلول عام 2030 إلى 8 تريليون دولار عالمياً – مقاربةً بديلةً على صعيد التمويل، تنطوي على مبادئ أخلاقية. فبالانتقال من النماذج التقليدية المتمثلة بتحقيق أقصى قدر من الربح إلى نماذج تُعتمد فيها الإدارة المالية المستندة إلى القِيم، يوفّر التمويل الإسلامي النطاق والإطار الأخلاقيَّين اللازمَين لتغيير علاقتنا بالبحار.
التمويل الإسلامي: إطار طبيعي للخلافة على المحيطات
يوفّر التمويل الإسلامي مقاربات مميزة على صعيد المحافظة على الحياة البحرية، وذلك عبر مبادئ تتماشى في جوهرها مع المسؤولية البيئية:
الميزان: يعترف هذا المبدأ القرآني بالتوازن الطبيعي الذي أنشأه الله تعالى، ويدعو إلى اعتماد أنظمة اقتصادية تحترم توازن المحيطات الطبيعي بدلاً من الإخلال به.
الطيِّب: يتخطى مجرد المباح، ليؤكد على ما يعزز الطهارة والمنفعة، فالطيّب يستلزم استثمارات تستعيد المحيطات بها عافيتها، دون أن يقتصر الأمر على مجرد تجنُّب الضرر.
الحِمى: يوفّر هذا التوصيف الإسلامي للمحميات والذي يعود تاريخه إلى 400 عام إطاراً ثقافياً للمحميات البحرية، ويوازن بين الحفاظ على النظام البيئي واحتياجات المجتمع.الامتناع عن الاستخراج: يعارض التمويل الإسلامي، بحظره الغرر والربا، النماذج القائمة على الاستخراج، ويتعامل مع الموارد البحرية على أنها أمانات دائمة، لا سلع للاستغلال.
خمسة طرق تصنع من التمويل الإسلامي عنصرًا أساسيًا للمحافظة على المحيطات
في الفترة التي تسبق انعقاد مؤتمر الأمم المتحدة للمحيطات 2025، يجمع منتدى الاقتصاد والتمويل الأزرق قادة العالم لحشد الاستثمارات المستدامة للحفاظ على المحيطات. ومن أجل تحويل هذه المبادئ إلى إجراءات ملموسة على صعيد الحماية البحرية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، نقترح خمس مبادرات إستراتيجية توائم بين الآليات المالية الإسلامية والاحتياجات الملحّة للحفاظ على المحيطات:
وضع الصكوك الزرقاء خصوصاً للمحافظة على الحياة البحرية
توفّر سوق التمويل الإسلامي المتوقع أن تبلغ قيمتها 8 تريليون دولار أميركي بحلول عام 2030، فرصة استثنائية لمعالجة مسألة الحفاظ على المحيطات على أوسع نطاق. يمكن لهذا القطاع المتسارع التنامي، والذي يسترشد بمبادئ الاستثمار الأخلاقي وحظر الاستغلال، أن يوجه رأس مال كبير نحو استعادة البيئة البحرية من خلال أدوات متخصصة مثل الصكوك الزرقاء. وبالاستفادة من هذا النظام المالي، تستطيع البنوك الإسلامية تمويل مشاريع تجديد المحيطات في بيئات بحرية متعددة – من استعادة أشجار المانجروف والمصايد المستدامة إلى إعادة تأهيل المرجان والحدّ من التلوث البلاستيكي. ومن شأن هذه الاستثمارات أن تلقي الضوء على القدرة التي يتمتع بها التمويل المتناغم مع الدين الإسلامي لقيادة الجهود العالمية في حماية محيطاتنا، ولتوفير عوائد مستقرة وأخلاقية تلبي متطلبات الشريعة الإسلامية والضرورات البيئية في نفس الوقت
تُعد الإمكانات في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كبيرةً. ففي كانون الأول/ ديسمبر، 2024، أصدرت موانئ دبي العالمية السندات الزرقاء في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهي الأولى من نوعها في العالم، والبالغة قيمتها 100 مليون دولار أميركي، أمّا الغاية منها فهي تمويل مشاريع مستدامة في مجالات النقل البحري وبنية الموانئ التحتية والحدّ من التلوث ومبادرات المياه.
إحياء نموذج أوقاف المحيطات
تمثّل الأوقاف إحدى مساهمات التمويل الإسلامي الأكثر ابتكاراً على صعيد التنمية المستدامة. تُخصّص هذه المؤسسة التي تعود إلى قرون من الزمن أصولاً لصالح المجتمعات أو لصالح قضايا معيّنة. وفي أندونيسيا، يبيّن نموذج الغابات المعتمدة على الأوقاف كيف يمكن تبنّي هذا النموذج عينه في حماية البيئة من خلال إعادة تأهيل الأراضي.
يمكن لدول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إنشاء مؤسسات ”أوقاف المحيطات“ التي توفّر هِبات دائمة مخصصة لحماية البيئة البحرية. تستطيع هذه المؤسسات أن تعمل كآليات تمويل لمحميات بحرية، ذاتية الاستدامة، وذلك باعتماد أنشطة مدرّة للدخل تحترم المبادئ البيئية. ويوفّر هيكل الأوقاف التقليدي – الذي حافظ على البنية التحتية العامة لقرون – نموذجاً لتمويل جهود المحافظة على البيئة التي يجب أن تستمر لأجيالٍ قادمة.
تطبيق نظام “حِمى” في المناطق البحرية المحمية
يُظهر نظام حِمى – وهو توصيف إسلامي تقليدي لمبدأ الحفاظ على البيئة – فعالية ملحوظة للمقاربات المنبثقة من منطلق ديني على صعيد حماية البيئة البحرية. وتوفّر المحمية البحرية في جزيرة ميسالي في زنجبار، دارسة حالة مثيرة للاهتمام؛ فحيث فشلت القوانين البيئية التقليدية في إيقاف الصيد المدمِّر، مزج مشروع فريد من نوعه بين المعتقدات الإسلامية المحلية والفوائد الاقتصادية لحماية موارد الجزيرة الطبيعية.
كانت النتائج لافتة للنظر – فقد أظهرت الدراسة أنه في حين أنّ، في البداية، كان 34 في المئة فقط من الصيادين يعتقدون أنّ الإسلام يهتم بمسألة استخدام الموارد البحرية، ارتفعت هذه النسبة إلى 66 في المئة بعد تنفيذ المشروع.
ومن خلال الانطلاق في مسألة الحفاظ على البيئة البحرية من مبادئ الخلافة والاستدامة الإسلامية، ستكتسب هذه المناطق المحمية شرعية ثقافية وسلطة دينية، غالباً ما تفتقر إليها التوصيفات العلمانية البحتة. ويمكن لهذا النهج أن يكمّل تنفيذ هدف حماية المحيطات 30×30 ويعززه، وذلك بضمان مشاركة المجتمع المحلي واعتماد آليات الإنفاذ المستدامة.
مواءمة المعايير المصرفية الإسلامية مع مبادئ اقتصاد الرفاه الأزرق
يمكن لقطاع التمويل الإسلامي الذي يشهد توسعاً سريعاً أن يغيّر الطريقة التي نقيّم بها موارد المحيطات، من خلال دمج مسألة تجديد النظام البيئي في القرارات المالية.
تتماشى هذه المقاربة مع إطار “الاقتصاد الأخلاقي الأزرق” الذي دعا إليه إعلان الأديان المتعددة في مؤتمر الأمم المتحدة الثالث للمحيطات، والذي يجعل من مسألة التجديد البيئية، لا فقط الحفاظ على البيئة،الهدف الاقتصادي المحوري. إنّ اقتصاد الرفاه الأزرق المبني على المبادئ الإسلامية من شأنه أن يعترف بوجود أشكال من القِيَم للمحيطات متعددة، تتجاوز مسألة الاستخراج؛ مثلاً، الأهمية الثقافية والوظائف البيئية والتراث المنتقل عبر الأجيال. وذلك يضع إطاراً جديداً لقرارات الاستثمار البحري بشأن مبدأ الكفاية (ضمان ما يكفي الجميع) بدلاً من مبدأ تعظيم الناتج (استخراج أكبر قدر ممكن)، بما يتناغم مع مفاهيم التوازن والاعتدال الإسلامية. إنّ شرط دعم المعاملات بالأصول في مجال التمويل الإسلامي ينشئ تناغماً مع المشاريع الملموسة على صعيد إصلاح البيئة البحرية.
وتوفر الصكوك المخصصة لاستعادة أشجار المانجروف، وشراكات المضاربة الموجهة إلى إنشاء تعاونيات الصيد المستدام، والأوقاف المخصصة للمناطق البحرية المحمية أطر عمل جاهزة لتحويل علاقة المنطقة ببحارها – أي وضع مبادئ االخلافة البيئية الإسلامية في إطار إجراءات اقتصادية عملية. ومع التوقعات بأن تصل الاستثمارات العالمية في مجال البيئة والمسائل الاجتماعية والحوكمة إلى 50 تريليون دولار أميركي في عام 2025، يمكن للصكوك الزرقاء أن تجذب رؤوس أموال عالمية كبيرة، وأن تحافظ في الوقت نفسه على عائدات تنافسية، بما يضع مؤسسات منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا المالية في مقدمة الأسواق المالية المستدامة سريعة النمو. إنّ هذا التقارب بين مبادئ التمويل الإسلامي وتوجّهات الاستدامة العالمية يخلق حالة تجارية تجذب المؤسسات المالية إلى ريادة أدوات الاستثمار التي تركّز على المحيطات.
الاستفادة من الزكاة والصدقات لحماية المحيطات
تبلغ الصدقات السنوية في المنطقة، والمتمثلة بالزكاة المفروضة والصدقات التطوعية، مليارات الدولارات. ومن شأن إنشاء صناديق مخصصة للحفاظ على المحيطات تكون مؤهلة للحصول على هذه المساهمات أن يؤدي إلى توسيع نطاق الحماية المجتمعية للبحار بوتيرة سريعة، بما يتماشى مع الإستراتيجيات الإقليمية، مثل أهداف الاستدامة الخاصة برؤية المملكة العربية السعودية 2030 وإستراتيجيات الاقتصاد الأزرق المختلفة في دولة الإمارات العربية المتحدة.
تُظهر البرامج التي تربط تنظيف السواحل بالممارسات الدينية – مثل المبادرات الإسلامية الناجحة في زنجبار للحفاظ على البيئة البحرية – كيف يمكن ترجمة القِيم الروحية عملاً بيئياً. يجب على الحكومات الإقليمية أن تدمج آليات التمويل الإسلامي في استراتيجياتها الوطنية الخاصة بالمحيطات، وأن تضع أطراً تنظيمية تعترف بأنّ الحفاظ على البيئة البحرية هو من الأمور التي تستحق الزكاة، وأن توفّر حوافز ضريبية للصدقات الموجهة للمحيطات.
يمكن لهذه البرامج أن تستهدف أزمة البلاستيك تحديدًا، وأن تحشد الجهود المجتمعية للحدّ من تدفق البلاستيك في محيطاتنا، مع الدعوة إلى التغيير المنهجي في التعبئة والتغليف وإدارة النفايات. ويمكن لبلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بتضمينها مبادئ التمويل الإسلامي في السياسات البحرية الوطنية، أن تثبت ريادتها العالمية في تمويل قضية الحفاظ على البيئة المتوافقة مع مبادئ الدين الإسلامي، وذلك قبل تحقيق أهداف الاستدامة لعام 2030.
دعوة إلى الالتزام بمبدأ الخلافة البيئة لحماية المحيطات
يتخطّى التحوّل الذي تشهده منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا موضوع الاعتماد على الوقود الأحفوري فحسب – بل إنّه دعوة إلى تجديد عهدنا مع كلٍّ من البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر والخليج، هذه البحار التي حفِظت جميعها حضاراتنا وثقاقاتنا لآلاف السنين.
والقرآن الكريم صريح الكلام عن الأزمة البيئية في زمننا، نقرأ ذلك في قوله تعالى: “ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ“ (الروم: 41).
يذكّرنا هذا التحذير بأنّ التدهور البيئي ينبع من خيارات الإنسانية، ويمكن مواجهته وعكسه من خلال العمل الواعي.
إنّ أفعالنا اليوم تحدد ما إن كانت الأجيال القادمة سترث نظماً إيكولوجية بحرية مزدهرة أو مياهًا مستنفدة. تقدِّم الأدوات المالية الموصوفة هنا مسارات عملية لتحويل علاقتنا بالبحار – من الاستغلال إلى التجديد، ومن الاستهلاك إلى الخلافة البيئية، ومن الأخذ إلى العطاء.
إنّ الماء الذي طالما مدّنا بالحياة، يدعونا اليوم إلى حمايته. ويمكننا، من خلال التمويل الإسلامي، أن نستجيب لنداء عابر للأديان، ليس فقط لتجنُّب الأذى، بل لشفاء بحارنا المقدسة واستعادتها من أجل الخلق جميعه.